السلام عليكم
تفسير سورة الحديد
[b]سورة الحديد[size=9]
« مدنيّة ، وهي تسع وعشرون آية »
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سَبَّحَ للهِِ مَا فِي السَّماوَاتِ وَا لاَْرْضِ وَهُوَ ا لْعَزِيزُ ا لْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَا لاَْرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ (2)هُوَ ا لاَْوَّلُ وَا لاْ خِرُ وَالظَّاهِرُ وَا لْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيء عَلِيمٌ (3) .
تفسير المفردات الآيات (1 ـ 3)
سبّح لله ما في السماوات وما في الأرض : التسـبيح هو تنزيه الله عن كلِّ نقص، والاعتراف له بالكمال المطلق. والمعنى: أنّ كل ما في السماوات والأرض من مخلوقات تشهد بكمال الخالق، وتنزيهه عن صفات المخلوقين.
ويتحقق تنزيهه سـبحانه بالقول والفعل والنيّة. أي بالعقـيدة والقصد والعبادة.
العزيز : القوي الذي لا يُغلب، ولا يُعجزه شيءٌ، أي النافذ الإرادة والمشيئة.
الحكيم : الذي يتقن صنع الأشياء، ويُحسن تدبير الاُمور بعلمه.
هو الأوّل : هو الذي لا شيء قبله، من غير أن تكون لوجوده بداية.
الآخِر : الباقي بعد فناء كل شيء، وهو منزّه عن الفناء.
الظاهِر : الغالب المتفوِّق على الأشياء جميعها، وفُسِّر أيضاً بأ نّه الظاهر بالأدلّة والشواهد(19) فلا يخفى وجوده.
الباطن : المطّلع على بواطن الاُمور، العالم الخبير بما بَطَن: أي بما خفي من الاُمور. والمعنى: أنّه عالم بما ظهر وما بطن.
المعنى العام الآيات (1 ـ 3)
اختتم الله سبحانه سورة الواقعة بخطابه إلى نبيه الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)بقوله: (فسبِّح باسم ربّك العظيم )، ثم جاءت بعدها سورة الحديد(20) مباشرة في ترتيب السور مُبتدأة بقوله تعالى : (سبّح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ).
فجاءت الآيتان تكمل احداهما الاخرى في الهدف والبيان ، فبعد أن أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أن يُسبّح باسم ربّه العظيم ، إبتدأ سورة الحديد بالحديث عن تسبيح الخلائق ، فأوضح للإنسان أن عوالم الطبيعة ، بما فيها من جماد وحيوان وطير ونبات، كلّها تُسبِّح لله ، وتنزهه عن الشريك والشبيه والضد والمثيل والحاجة وفعل الشر والقبيح ، ليكشف للإنسان حقيقة كبرى في عالم الخلائق وهي أن الإنسان الموحِّد ، والملائكة المسبحين ، ليسوا وحدهم يسبحون لله وينزهونه .
جاء ذلك البيان بقوله سبحانه: (وإن من شيء إلاّ يسبّح بِحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).
فكل موجود في هذا العالم يعرف خالقه، ويسبح بحمده، يثني على عظيم صفاته، ويشهد له بالوحدانية بطريقة تناسب وجوده.
ومن مظاهر تسبيح الموجودات الّتي لا يجهلها العقل شهادتها بتنزيه خالقها بما تتصف به من دقة الخلق وعظمة الضبط والإتقان والتكامل في الغاية.. فكل ذلك يشهد باتصاف الخالق بالكمال المطلق، وينفي عنه العجز والعبث; لذلك وصف الخالق نفسه في هذه الآية بأنه عزيز حكيم، عزيز يشهد الكون بغلبته ومنعته ، كما يشهد بحكمته المتمثلة بالضبط والإتقان والكمال والحساب العلمي الموزون، ونفي العبث والتفاوت والفوضى في هذا العالم ، وهذه الخلائق المسبِّحة بحمد ربّها هي مُلكه، يدبِّر شؤونه بعزة وحكمة. ثم يوضّح أن قانون الموت والحياة في هذه العوالم هو جزء من قوانين هذا الوجود الّذي يسير بدقة وإتقان وحكمة، ويخضع لإرادة الله العزيز الحكيم القادر على كلّ شيء، فعلى الإنسان أن يتأمل هذه الحقيقة ليدرك انه جزء من هذه العوالم الّتي تسبّح لله وتنزهه فيكون من المسبِّحين.
عليه أن ينزّه الله فيوحّده بلسانه وقلبه وفعله وما حوت نفسه من قصد ونية، فيجعل قصده ونيته وعبادته ووجهته لله وحده فلا يشرك به أحداً.. ان القرآن يريد من المسبِّح الّذي ينزه المعبود عن الشر والنقص، ويثبت له الكمال والخير المطلق أن يطهّر قلبه ونفسه وعقله وفعله من الشر والفساد والجريمة. فينضم إلى تلك العوالم المسبّحة بحمد ربّها الّتي انطلقت وسارت في غايتها نحو الخير المطلق، فلا يشذ عن مسيرة التوحيد فيهلك، ويحل به غضب الله.
ولكي يزيد القرآن الكريم الإنسان وعياً ووضوحاً آخر ، ذكَّره بأن هذا الكون الّذي لا يعرف الإنسان له نهاية، هو مخلوق لله سبحانه، وله بداية ونهاية.
وأن خالق الوجود هو الأول الّذي لا بداية له، والآخِر الّذي لا يموت ولا يفنى، فهو منزه عن الزمان والمكان.
وان قانون الموت والفناء يجري على المخلوقات بأسرها ويتنزّه الله عن ذلك; لذا قال سبحانه: (هو الأوّل والآخر ).
ويتواصل حديث الباري جل ثناؤه، عن صفاته المقدسة ، وتعريفها للإنسان; لينزِّهه ويثني عليه فيصف نفسه بأنَّه (الظاهر والباطن ).
الظاهر العالي المتفوق بقوته وعلمه وعزّته على المخلوقات كلّها، وهو الظاهر للعقل والوجدان بما تشهد له الآيات والدلائل في هذا العالم.
وهو الظاهر الّذي اطّلع بعلمه على ما يفعل النّاس وما يجري في الوجود.
وهو الباطن الّذي خفي عن العيون والحواس، وملأ نور وجوده الخلائق.. انه وحده الّذي يوصف بالظاهر والباطن، فغيره لا يمكن أن يكون إلاّ ظاهراً واضحاً أو باطناً خفياً. أما هو سبحانه فهو الظاهر الّذي لا يُخفي وجوده شيء، غير أنّه منزّه عن أن تدركه الحواس، وهو الباطن المنزّه عن الظهور الّذي ألفه النّاس; لذا وصف وجوده الظاهر والباطن بقوله:(الله نور السماوات والأرض ) إنَّ وجوده لا يخلو منه وجود; لذا فهو لايوصف بأنه ظاهر فحسب، أو باطن فحسب، بل تفرّد بجمع الصفتين معاً خلافاً لما ألفه النّاس. وهو الباطن الّذي علم بواطِن الاُمور، واطّلع على ما تحوي السرائر
والضمائر . فقد أحاط علمه بظواهر الاُمور وبواطنها; لذا قال: (وهو بكل شيء عليم )فليس الظاهر والباطن بالقرب إليه إلاّ سواء.
فهو الحقّ والحقيقة الّتي ملأت الوجود كلّه، فتجلّت في كل شيء ، وتجلّى بها كلّ شيء، وأحاط بكل شيء علماً، بل كل شيء صدر عن علمه وإرادته، فما عداه مظهر زائل، وأثر باطل ، فهو الأول والآخر، وهو الظاهر والباطن، وهو الّذي خلق السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم، وهو على كلّ شيء قدير، وهو بكلّ شيء عليم، وهو معكم أينما كنتم، وهو عليم بذات الصدور، وهو الّذي ينزِّل على عبده آيات بيّنات، وهو الّذي يسبِّح له ما في السماوات وما في الأرض.
وهكذا تصنع هذه الآيات هالة من نور تتألق من خلالها الأسماء الحسنى ليبصر الإنسان بهديها حقيقة هذا العالم، ويشعر بالحضور الإلـهي الدائم يملأ عقله ووجوده ووجدانه ، فيستغرق في عالم المسبّحين، يُنزّه خالقه ويثني على عظيم صفاته، وليفيض هذا التسبيح على ذات الإنسان فتتنزّه عن الشر والظلم والعدوان، ونكران فضل الله ونعمه.
* * *
هُوَ ا لَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَا لاَْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى ا لْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ا لاَْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَا لاَْرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ ا لاُْمُورُ (5)يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ ا لَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَات بَيِّنَات لِيُخْرِجَكُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ (9) .
تفسير المفردات الآيات (4 ـ 9)
استوى على العرش :العرش : يعني هنا الملك . والاستواء : هو الاستيلاء والهيمنة والمعنى أن الله مُهيمن ومسيطر على الملك بأسره . وقيل أن الاستواء على العرش : هو الاستواء من كل شيء، فليس شيء أقرب اليه من شيء. فقرب الأشياء جميعها بالنسبة اليه واحد، فهو الذي لا يخلو من وجوده وجود.
يلج في الأرض :يدخل فيها.
يعرج فيها :يصعد في أجوائها.
يولج الليل في النهار :يدخل أحدهها في الآخر. والمعنى اختلافهما في الطول والقصر على امتداد الفصول الأربعة فيحتل أحدهما جزءاً من وقت الآخر.
ذات الصدور :ما تخفيه وتُسرُّه النفوس والضمائر.
المعنى العام الآيات (4 ـ 9)
في قـوله تعالى : (هو الّذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى(21) على العرش(22)... ) . يتحدّث القرآن عن خالق السماوات والأرض، وخلقها في ستة أيّام، إنَّه يتحدّث عن تقدير الأمد الزماني الّذي استغرقه تكوّن العالم مقاساً على اليوم الطبيعي المألوف لدى الإنسان; لينطلق العقل متأملا في عظمة الله سبحانه ، ومتصوراً ما قبل ظهور العالم إلى الوجود.
لقد بدأ القرآن الحديث مع الإنسان من نقطة البداية فأوضح أن الأول من غير بداية هو الله سبحانه، ثم تحدَّث عن خلق السماوات والأرض في ستة أيام، تلك المدة الزمنية القصيرة الدّالة على عظمة الله سبحانه .
والحديث عن (العرش) و(الإستواء) حديث عن مصطلحين عقيديين، ومفهومين يحتاجان إلى إيضاح وبيان يتفق وعقيدة التوحيد، وتنزّه الله سبحانه عن مشابهة الخلق وعن العرش والاستواء المادّيين. وعندما نتحدث عن العرش والإستواء ، يجب أن نعرف أن للقرآن أساليب بلاغية، وتعابير استخدمت المجاز والكناية لتقريب الأفكار والمفاهيم الغيبية إلى فهم الإنسان من خلال ما يعرفه ويتصوره في عالم الحس . لذا مهّد لهذا البيان بقوله: (له ملك السماوات والأرض)، ثم ربط بين هذه الآية والآية الأخرى بقوله: (خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش)، يتضح من ذلك أن العرش هو كناية عن الملك والسلطان، وأن الإستواء كناية عن تولي اُمور الخلائق وإدارة شؤونها، وأن كلّ ما في هذا الملك مستوي النسبة إليه في العلم والقرب والقدرة عليه . مهما صغر أو كان عظيماً ، وليس المقصود بالعرش والاستواء هو المعنى المادي المألوف لدينا فالله منزه عن ذلك .
يوضح هذه الحقيقة قوله تعالى : (وما قدروا الله حقّ قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يشركون) (الزّمر / 67) .
فالمقصود بهذه الآية هو هيمنة الخالق العظيم ، وسيطرته على السماوات والأرض .
* * *
(يعلمُ ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ).
وبعد أن تحدثت الآية السابقة عن احاطة علم الله بكل شيء ، وجّهت الآية اللاّحقة الأنظار إلى علمه سبحانه بما يدخل الأرض ، ويستقر تحت سطحها من بذور لتنبت وأشعة وغازات وحرارة ، وما يخرج منها من نبات وبخار وحرارة وغازات متصاعدة في أجواء السماء ... إلخ .
ومن هذه الآية نفهم الأخذ والعطاء ، أو وحدة النظام بين الأرض والفضاء، وتأثير بعضها بالبعض الآخر ، وفي هذا البيان القرآني: (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) يريد الوحي أن يزيح الحجب عن النفس البشرية، ويهيّئها لتقبُّل العمل الصالح ، وليشعر الإنسان بحضور الخالق معه في كلّ زمان ومكان ، ويُحسِّسه بإحاطة علمه بما تحوي النفوس ، وما يصدر عن الإنسان من قول وفعل، لئلا يغفل عن وجود خالقه ، وليرى الله معه في سِرِّه وعلنه رقيباً عليه محيطاً به، فلا يقدم على معصية، ولا يخاف غير الله، ولا يستوحش من الوحدة في الثبات على الحقّ ومواجهة الطواغيت.
* * *
(له ملك السّماوات والأرض وإلى الله ترجع الاُمور ).
ثم يتحدث مرة أخرى عن الخالق المالك للسماوات والأرض الّذي يدبر شؤون الخلائق ويسيّر الوجود وما يحدث فيه ، فيذكِّر بأن مصير الاُمور لله الّذي له الملك ، فإن مالك السماوات والأرض هو مالك الاُمور كلّها.
ثم يوجه القرآن نظر الإنسان إلى حوادث الليل والنهار، وما يصاحبهما من زيادة ونقصان يحتل أحدهما من الآخر الفارق في المساحة الزمنية الّذي يحدث على مدى الفصول الأربعة. فيقول: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور)فالآية تشير إلى الحركة الدائرية التي تنتج الليل والنهار، فايلاج الليل في النهار وايلاج النهار في الليل يشكل دائرة تامة كما ترسمها الآية الكريمة ، ثم يعود القرآن بقوله: (وهو عليم بذات الصدور) ليجعل محور الحديث والخطاب هو الإنسان فيذكّره بأن خالق ذلك الوجود عالم بما تحوي النفوس والضمائر عالم بما يتوارد على نفس الإنسان من الظلمة والنور، كما هو عالم بما يتوارد على الأرض من ظلمة الليل وضياء الشمس ، فعلى الإنسان أن يطهّر نفسه وضميره ومشاعره من الشر والفساد، فالله سبحانه يدعوه الى تنزيه نفسه، كما دعاه الى الاعتقاد بتنزيه بارئه.
وبالعودة الى قراءة هذا المقطع من الآيات يتجلى لنا من خلالها التأكيد على حقائق ثلاث هي:
1 ـ التعريف ببعض أسمائه الحسنى: «العزيز، الحكيم، الملك، المحيي، المميت، القدير ، الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، العليم، الخالق، البصير»، وبيان مظاهر تجلي تلك الأسماء وإشراقات آثارها في عالم المخلوقات (النفس والطبيعة) التي تحدَّث عنها.
2 ـ التأكيد على صفة العلم الإلهي والحديث عن تجلّي آثارها بشكل مُبرَّز، جاء ذلك في قوله :
* الباطن والظاهر .
* بكل شيء عليم .
* يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها.
* يعلم ما ينزل من السماء وما يعرج فيها.
* هو معكم أينما كنتم حاضر لايغيب، أحاط بكل شيء علماً.
* والله بما تعملون بصير: عالم ، مُطّلِع على الحقيقة.
* عليم بذات الصدور.
3 ـ تنزيه الله سبحانه عن مشابهة الخلق، والدعوة إلى تنزيه الذات البشرية عن الكفر والشر والفساد.
المعنى العام الآيات (7 ـ 9)
وبعد أن تحدّث الوحي في الآيات الأولى من هذه السورة عن الخلق والخالق وعرّف بصفاته وعظمته ، واطّلاعه على ما في الكون والحياة والنفس البشرية، دعا الإنسان الى الإيمان بالله ورسوله ايماناً صادقاً يقوم على أساس التوحيد; توحيد الله وتنزيهه ومعرفته وطاعته ، بعيداً عن الشوائب والنفاق، فإن الخالق لا يخفى عليه شيء مما انطوى عليه ضمير الإنسان ونفسه.
وبعد أن دعا إلى الإيمان بالله ورسوله دعا الى إنفاق المال. فوضّح لنا بهذه الآية حقائق أساسية في حياة الفرد والمجتمع ونظام الإقتصاد والعيش والملكية وهي:
1 ـ ثبّتت لنا هذه الآية مبدأً هاماً في نظام الملكية مبنياً على عقيدة الإيمان بالله وعلى ما تقدم من آيات فوضّحت أن الملك لله، وأن الأشياء جميعها تصير إليه وتعود.
وتأسيساً على هذا المبدأ فان ما بيد الإنسان من مال وثروة ، هو ليس له في حقيقته، إنما هو لله ، والإنسان مستخلف فيه ، أي ان الإنسان جُعل خليفة في الأرض جيلا بعد جيل ليمارس دوره وفق قانون الإستخلاف، ومنه قانون المال والملكية، وبذا وضّح لنا القرآن أن الملكية علاقة وقتية بين الإنسان والمال تنتهي بانتهاء حياته، لينتقل إلى غيره; وبذا تكون الملكية وظيفة اجتماعية ، ويكون المالك موظّفاً على ما يملك; وعليه أن يتعامل مع المال وفق القانون الإلـهي الذي أمر بإنفاقه لمصلحة المجتمع وإصلاحه، وتثبيت مبادئ الهدى، وتحريم تجميده ومنعه عن المحرومين وذوي الحاجة.
2 ـ ربط بين الإيمان بالله ورسوله ، وبين نفقة المال والجزاء الاُخروي ، ليوضح ان من يؤمن بالله ورسوله ، وبأن الملك لله وحده ، وأن الحياة فانية ، والبقاء في عالم الآخرة، يتجسد صدق إيمانه هذا في نفقة المال في سبيل الله ، فينفقهُ في كل ما يرضي الله سبحانه. كبناء المساجد والمدارس ، وملاجئ الأيتام والمستشفيات ، ومساعدة المحتاجين ، ونشر العلم والثقافة الإسلامية ، والجهاد في سبيل الله ، والدعوة الى الله ، والتوسعة على العيال..... لحماية المجتمع من الحرمان والإنحراف والمعصية والجريمة. وبذا يكون المال لخدمة العقيدة وتوفير خير الإنسان ، وليس للجمع والتكديس والتسلط والاستئثار ، واشباع غريزة الجشع وحب المال الأنانية.
* * *
(وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربِّكم... ).
وفي هذه الآية يوبخ القرآن تلك الفئة التي أعلنت إيمانها ، ولم يثبت هذا الإيمان ثبوتاً راسخاً في النفوس ولم يصدِّقه العمل. فهو يدعوهم إلى الإيمان الصادق الذي يتجسد في الطاعة لله ولرسوله ، والعمل بشريعته وقوانينه ، كما يدعوهم له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). ومن مصاديق ذلك الإيمان والطاعة ، هو النفقة في سبيل الله، فان نفقة المال في سبيل الله تُبرهن على أن حب المؤمن لله ، هو أعظم من حبه للدنيا وما فيها.
ان القرآن يُوبِّخ من لم يؤمنوا بربهم حق الايمان، ربهم الذي أنشأهم ورزقهم ووفر لهم معيشتهم في هذه الحياة ، ليربط بين النفقة والربوبية ، ويذكِّر بإحسان الله ; لذا قال لهم: (والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربِّكم... )، فقد استعمل صفة الربوبية هنا ; لأنّ الربّ في اللغة : المالك والسيد والمنشِّئ والمربِّي والمتكفِّل بمصلحة الشيء، وفي هذه الآية يُذكّرهم أيضاً بالميثاق الّذي واثقوا به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما عرض عليهم الإسلام فأعلنوا تصديقهم، وتعهدوا له بالإلتزام بكل ما حوت رسالته ودعوته، يذكّرهم أن النفقة في سبيل الله هي إحدى مصاديق الطاعة لله ورسوله الّتي جاءت في الميثاق الّذي أخذه الرسول عليهم.
* * *
(هو الّذي يُنزِّل على عبدهِ آيات بيِّنات ... ).
وبعد أن عرّف الله سبحانه نفسه، وما اتصف به من صفات الربوبية والأسماء الحسنى، وما أفاض على البشرية من برٍّ وإحسان ، عاد فبيّن أن هذا الربّ العظيم هو الّذي نزّل (على عبدهِ آيات بيِّنات )، وفي هذه الفقرة من الآية تحتشد المعاني الكبيرة والحقائق العقيدية العظيمة ، ففيها يؤكّد بشرية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وعبوديته لله، لئلا يطلبوا من الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)تحقيق ما يفوق طاقة البشر، وليؤكد لهم أن عظمة شخصية الرسول في عبوديته لله سبحانه.
وفي الفقرة ذاتها يؤكِّد حقيقة ترتبط بالخطاب الإلهي بأنه خطاب واضح : (آيات بيِّنات ) بيّن لمن أراد أن يفهم الحقيقة. ثم يتواصل البيان القرآني للكشف عن أهداف الرسالة الإلهية ومهام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المعبِّرة بمجموعها عن لطف الله بالإنسان ورحمته ورأفته به. فالهدف من كل ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو إنقاذ الإنسان، وإخراجه من الظلمات الى النور... من ظلمة الجهل بالله سبحانه الى نور معرفته، ليمتد هذا النور فيضيء العقول والنفوس، ويوضح الطريق والمسار أمام الإنسان; ليسير على وعي وعلم وبصيرة، ونقاء نفسي ووجداني متأ لِّق .
* * *
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّماوَاتِ وَا لاَْرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ا لْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ ا لَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ ا لْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَن ذَا ا لَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى ا لْمُؤْمِنِينَ وَا لْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ا لْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ا لاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذلِكَ هُوَ ا لْفَوْزُ ا لْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ ا لْمُنَافِقُونَ وَا لْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُور لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ا لْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ ا لاَْمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُم بِاللهِ ا لْغَرُورُ (14)فَا لْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ ا لَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ ا لْمَصِيرُ (15) .
تفسير المفردات الآيات (10 ـ 15)
مَنْ أنفق من قبل الفتح :مَنْ أنفق من قبل فتح مكة.
يُقرض الله :يُنفق المال في سبيل الله ، فكأ نّه أقرض الله ، ليُوفِّيه إليه يوم الجزاء .
يسعى بين أيديهم :ينتشر ويسير أمامهم.
وبأيمانهم:وترى النور يشع من أيمان المؤمنين،أي:من كتاب الأعمال الذي يحمله المؤمن بيمينه.
اُنظرونا نقتبس من نوركم :إنتظرونا نقتبس من نوركم.
إرجعوا وراءكم :إرجعوا الى عالم الدنيا، واعملوا الصالحات التي تستحقون بها النور والضياء. وفي هذا الجواب سُخرية وتوبيخ.
فتنتم أنفسكم :أوقعتموها في بلية وعذاب(23).
تربّصـتم :التربُّص هو الإنتظار، والمعنى: بقيتم منتظرين ما سيحدث بمحمد 6 وبالمؤمنين من نوائب فلم تقدموا على الإيمان بالله. وذلك يكشف ما في نفوسهم من نفاق.
إرتبتم :شككتم في وقوع الآخرة والجزاء.
الغَرور :الشيطان ، وكل ما يُغرِّر بالإنسان.
فدية :البدل الذي تُفدى به النفوس وتنقذ. كالمال الذي يبذله الأسير لانقاذ نفسه من الأسر.
هي مولاكم :هي (النار) أولى بكم، أي مصيركم الى النار، فهي التي تتحكم بكم.
المعنى العام الآيات (10 ـ 15)
ثم يعود مرّة اُخرى مُستفسِراً استفسار المستنكِر للبخل والشُّح والإمتناع عن نفقة المال في سبيل الله قائلا: (وما لكم ألاّ تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض ... ).
انّهُ يُذكرِّ، ويكشف لأولئك الّذين جمعوا المال، وكدَّسوا الثروة، وحرموا الآخرين من الإنتفاع به، وامتنعوا عن الإنفاق في سبيل الخير والدعوة إلى الله، ونصرة مبادئ الحقّ والهدى... انه يكشف حقيقة غائبة عن وعيهم، وهي أن المال هو لله سبحانه، وأن كل شيء مصيره إليه، وستنقطع علاقة التملك بينهم وبين المال عند انقطاع حياتهم ، فما لهم لا يدركون هذه الحقيقة، فينفقوا المال، ويحصلوا على مرضاة الله، وما أعدَّ من عوض مضاعف للمحسنين المنفقين في سبيله.
* * *
(لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة ).
وفي هذا المقطع من الآية يوضح القرآن العناصر الّتي تؤثر في قيمة النفقة عند الله سبحانه فيربط بين العنصر النفسي لدى الإنسان والظروف الموضوعية الّتي ينفق فيها المال كمقياس لقيمة النفقة ، ومقدار الأجر والجزاء الإلـهي عليها.
ان الّذي ينفق ماله حين الشدة والإضطهاد وساعات العسرة لينقذ الموقف، وينصر الحقّ، ويدافع بماله عن الإيمان، انّما يكشف عن درجة أعلى من الإخلاص، وعدم الرغبة في المكاسب الدنيوية، متحدياً الأعداء وسلطة الطاغوت الّتي تحارب المنفقين في سبيل نصرة الحقّ، وإسناد دعاة الإسلام بالمال. لذا قارن القرآن بين قيمة الإنفاق والقتال قبل فتح مكة، وبين قيمتيهما بعد الفتح. وفضَّل من أنفق وقاتل قبل الفتح على من أنفق وقاتل بعد الفتح; لاختلاف ظروف الإنفاق في الشدة والرخاء.
وكما يتحدّث القرآن عن قيمة انفاق المال حين الشدة والحاجة إليه لنصرة الحقّ والمبادئ، فانه يتحدث عن الجهاد، وبذل الجهود، وتجنيد الطاقة الجسدية والفكرية لنصرة الحقّ حين الشدة والمحنة الكبرى، وفي مواقف الحسم وساعات الفصل التي يتوقف عليها مصير المواجهة وتحقيق الأهداف الرسالية الكبرى. لذا كان للبدريين فضلهم، وكان لهم شأنهم; لقد كانت معركة (بدر الكبرى) معركة الحسم وساعة الفصل بين مسارين في تأريخ البشرية، فلولا ثبات الطليعة الّتي أحبت أن يكون لها الموقف ذات الشوكة لما تحقق ذلك النصر العظيم.
ثم يعقّب القرآن على هذه المفاضلة بقوله: (وكلا وعد الله الحسنى والله بما يعملون خبير).
يعقب بهذا البيان لسحب أثر الصدمة النفسية التي قد تصيب من يتأخر عن المبادرة في النفقة والجهاد، وليؤكِّد له أن عدل الله سبحانه يقضي بالجزاء بالحسنى لكل من أحسن، وليس هذا فحسب، بل ووضع المتأخرين الى جوار المتقدمين في استحقاق الحسنى رغم تفاوت الدرجة.
* * *
(مَن ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وله أجر كريم ).
ويتتابع حديث القرآن عن الإنفاق في سبيل الله، وتعظيم قيمته العقيدية فيجعله قرضاً على الله سبحانه يُوفّى لمقرضه يوم الحساب وفاءً مضاعفاً. ووعدُ القرآن في آيات عدة بالمضاعفة يصل الى سبعمائة ضعف، قال تعالى : (كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبّة والله يضاعف لمن يشاء ). إنها دعوة مشجّعة لمن آمن بيوم الحساب أن يدخر ماله قرضاً في خزائن الله، منتظراً الأجر الكريم، والثواب الجزيل، فهي في حساب المؤمنين عملية ادخار واحتياط لعالم الآخرة، إنها دعوة لانفاق المال وادخاره واستثماره في سبيل الخير والخدمة الاجتماعية، ونصرة القيم والمبادئ الاسلامية الخيّرة، لتغذية جسم المجتمع، ولفك الحصار عن المال، لكي لايكون حصراً متداولا بين طبقات الأغنياء، ولتحرير النفس البشرية من عقدة البخل والشح والأنانية الإحتكارية الّتي تقود الى حرمان الطبقات الفقيرة، وتأجيج نار الحقد والصراع، وجر المجتمع الى التخلف، وقتل الإحساس الوجداني ومشاعر الضمير الحي.
ان الدعوة الى الإنفاق هي دعوة لتحرير المنفق من أسر المال وموت الضمير وغياب الحس الوجداني، كما هي دعوة لتحرير المستضعفين من أسر الفقر والتخلف والحاجة.
* * *
(يوم ترى المؤمنين والمؤمنات نورهم يسعى بين أيديهم... ).
وفي هذه الآية الكريمة عود على حديثه عن الإيمان بالله ورسوله وبما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من هدي وإنقاذ للبشرية، وإخراج لها من الظلمات إلى النور، ومواصلة لما سبق من وعد بالأجر الكريم للذين آمنوا وجاهدوا وأنفقوا في سبيل الله، وبيان لموعد الوفاء، وهو يوم الجزاء يوم ترى المؤمنين والمؤمنات نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم.
وفي هذه الآية يصوّر القرآن مشهداً من أكثر مشاهد القيامة المحيطة بالمؤمنين بهجة وإشراقاً، كما يصوّر في الجانب الآخر مشهداً آخر من مشاهد البؤس والظلمة والشقاء المحيطة بالمنافقين، فيرسم من خلال هذا العرض صورة المؤمن وأحداث المشهد: المؤمنون والمؤمنات في هالة من نور، وسعة من الإضاءة والإشراق. ومن خلال هذا المشهد الألق يوحي بحقيقة فكرية وتشريعية تعرِّف بقيمة المرأة في نظر القرآن، فتوضِّح مساواتها للرجل في القدر والجزاء والمآل، دونما تفريق أو تمييز بسبب الجنس، انها مع أخيها المؤمن في هالة من نور في سرادق الحب والرحمة والحبور، إنه منتهى الإحترام والتكريم للمرأة في عالم القيم والمبادئ.
إنّه النور الّذي يهتدون به في السير إلى مأواهم النهائي، والدليل الّذي يوصلهم من ساحة الحشر والحساب إلى رياض الجنّة والنعيم قبل أن يتقرر المصير. وهكذا يمتاز الفريقان: المؤمنون في هالة من النور، والمنافقون تطوِّقهم دياجير الظلام ، فينطلق موكب النور ثابت الخطى والمسير، ويقف المنافقون والمنافقات متخبّطين، لا يبصرون من الطريق موطئ القدم، فيتوجهون إلى المؤمنين والمؤمنات بذلّة واستجداء قائلين: انتظرونا لنقتبس من نوركم، ونهتدي به، كما يهتدي السائر بحامل المصباح، فلا يسمعون غير سخرية الرد: إرجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً، إرجعوا إلى عالم الدّنيا، وآمنوا بالله واعملوا الصالحات، لكي تستحقوا النور والضياء.
وهكذا يصوِّر القرآن تراكم الظلمة حول المنافقين، وتأ لّق مشهد النور وهالة الضياء حول المؤمنين، ثم يزداد المشهد افتراقاً بين الفريقين، وينتهي الحوار فيُضرب بينهما بسور باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب.. وهكذا ينفصل العالمان: عالم الجنّة وعالم النّار بسور حاجز يُضرب بينهما.. غير أن التخاطب يستمر، والحوار يتواصل، فالسور لا يحجز الصوت والنداء بين الجنّة والنّار كما يصوِّر القرآن هذه الحقيقة.
إنّ هذا الحوار، ومشهد الظلمة والنور، يكشفان لنا عن قيمة الإخلاص، وصدق النية الّتي صورها الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) بقوله: «ألا وأنّ النيّة هي العمل».
فهو حوار بين المنافقين الّذين يظهرون الإيمان، ويمارسون الأفعال الخيّرة رياء ونفاقاً، وبين المؤمنين الّذين آمنوا وعملوا الصالحات بصدق وإخلاص.
إنّ ما يحيط بهم في ذلك العالم من الظلمة والعذاب، هو حقيقة ما حملته نفوسهم من نفاق وسوء قصد.
ويستمر القرآن في عرض صورة الحوار بين المؤمنين والمنافقين.
فالمنافقون الّذين كانوا في عالم الدّنيا مع المؤمنين يعرفونهم، ويعملون أعمالهم من الصلاة والنفقة; لذا يستولي عليهم الإحباط والذهول مما يحيط بهم يوم القيامة، فينادون المؤمنين مرة اُخرى، بعد أن يئسوا من أن يخرجوا من الظلمة وألوان العذاب، ينادونهم: (ألم نكن معكم... ) نؤدِّي الصلاة والصوم ونتصدّق ، ونفعل ما تفعلون ، فلماذا حلّ بنا هذا العذاب ، وأحاطت بنا تلك الظلمة الموحشة المروّعة؟
فيأتي الجواب من المؤمنين ان سبب إحباط أعمالكم وضياعها، هو أنكم فتنتم أنفسكم بالنفاق، وأوقعتموها في الفتنة، فاقترفتم المعاصي، وكنتم تضمرون الشر في أنفسكم للرسول والمؤمنين، كنتم تتربصون بهم، ولم تبنوا عملكم على إيمان صادق مخلص، بل كان الشك واضطراب العقيدة يسيطر عليكم، وخدعتكم أنفسكم بالأماني الكاذبة، وأقنعتم أنفسكم بأنّ محمداً سيموت ، وأنّ الإسلام سينتهي، فكان عملكم كذباً ونفاقاً، لقد غرّكم الشيطان، وما رأيتم من أسباب الغرور في عالم الدّنيا فأضعتم عملكم، وأهلكتم أنفسكم، واستمرّت بكم هذه الحال حتّى جاءكم الموت، وحشرتم في هذا الموقف الرهيب، فلا مُخلِّص ولا منجاة لكم من النّار، ولن تقبل منكم فدية للخلاص، كما لا تقبل من الكافرين، إن مكانكم الّذي تأوون إليه هو النّار، فهي أولى بكم، فبئس المولى وبئس المصير.
إنّ هذا الحوار موعظة وتعريف لمن يقرأ القرآن عبر أجيال البشرية ، ولمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد.
وهكذا يعرض القرآن ان قيمة العمل تتجسد بالاخلاص لله وأن النفاق هو خداع للنفس، وتضليل لها وجناية عليها.
* * *
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ا لْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَا لَّذِينَ أُوتُوا ا لْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ا لاَْمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِي الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ا لاْيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ ا لْمُصَّدِّقِينَ وَا لْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضَاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَا لَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَا لَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ ا لْجَحِيمِ (19)اعْلَمُوا أَ نَّمَا ا لْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ا لاَْمْوَالِ وَا لاَْوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْث أَعْجَبَ ا لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي ا لاْخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا ا لْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ ا لْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَة مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّماءِ وَا لاَْرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو ا لْفَضْلِ ا لْعَظِيمِ (21) .
تفسير المفردات الآيات (16 ـ 21)
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم :أما حان للمؤمنين أن تخشع قلوبهم.
فطال عليهم الأمد :الأمد: الزمن الذي ينتظر به وقوع الشيء، والمعنى: طال الفاصل الزمني بينهم وبين وقوع العذاب بهم، وقيل طال الزمان بينهم وبين أنبيائهم .
تكاثر بالأموال والأولاد:مباهاة بالأموال والبنين.
الصدّيقون :جمع صدّيق، وهو الكثير الصدق. ويراد به هنا: الصادق في القول والعمل.
غيث :مطر.
أعجب الكُفّار نباته :الكُفّار(24) هنا هم الزرّاع، وسُمي الزارع بهذا الاسم; لأ نّه يكفّر البذور ، أي يغطيها بالتراب، وسمي الكافر برسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)كافراً ; لأ نّه يغطي الإيمان. وذهب بعض المفسرين الى أن معنى الكُفار هنا هم الكافرون بالله، لأنهم اكثر من غيرهم إعجاباً بمظاهر الدنيا وعطائها الزائل كحقول الزرع وغيرها.
يهيج فتراه مُصفراً :يبلغ أعلى مراحل نموه فيصفر وييبس.
المعنى العام الآيات (16 ـ 21)
(ألم يأن للّذين آمنوا أن تخشع قلوبهم.... ).
وبعد أن تحدّث القرآن عن ذلك المشهد فصوّر الأمل والألم والظلمة والنور والرحمة والعذاب في عالم الآخرة، عاد مرة أخرى ليخاطب المؤمنين، ويدعوهم إلى التعمّق في الإيمان، وتفاعل القلب والنفس معه، ليظهر ذلك الإيمان على سلوكهم ومواقفهم بشكل أعمق، وأكثر تغييراً وانتقالا من الأوضاع الّتي كانوا يعيشونها قبل الإسلام.
لقد جاء الخطاب بصيغة سؤال المتعجب: (ألم يَأْنِ للّذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق... ).
إنّ الوحي يعاتب فريقاً من المؤمنين، بعد مرور سنين طوال من نزول الحقّ وتواصل الذِّكر، على عدم حصول التغيير الكامل في نفوسهم ومواقفهم، انّه يسألهم ألم يحن الوقت بعد مرور هذه المدة على إسلامكم أن تصل قلوبكم إلى مرحلة الخشوع لذكر الله، ولما نزل من الحقّ؟ فان الخشوع أصدق مظاهر الإيمان وحصول التغيير الشامل في النفس.
إنّ تتابع الوحي والذكر يجب أن يعمّق ويكمل في نفوسكم التغيير، ولا تكونوا كالّذين اُوتوا الكتاب من قبلكم، من اليهود والنصارى، الّذين طال عليهم الأمد، مرّت عليهم الفترة الزمنية الطويلة بينهم وبين الأنبياء فقست قلوبهم، وابتعدت عن ذكر الله تعالى، فاقترفوا الجرائم والمعاصي، فانتشر فيهم الفسق والإنحراف.
وبهذه الآية يدعو القرآن الإنسان المخاطب إلى رقة القلب، والخشوع لذكر الله ولدعوة الحق ; لئلاّ يقسو قلبه فيتحوّل إلى مجرم ومسيء.
بعد ذلك يخاطبهم القرآن بقوله: (اعلموا أن الله يُحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلّكم تعقلون ).
وفي هذا الخطاب دعوة إلى استخدام العقل لتفهّم حقيقة كبرى محسوسة لدى الإنسان، وهي إحياء الأرض الميتة بالنبات والزهور والثمار والنضارة والجمال. وإيحاء للعقل البشري بأن الّذي يحيي الأرض يحيي القلوب القاسية والضمائر الميتة بالهدى ونور الإيمان ومكارم الأخلاق.
ثم يعود الوحي للتحدث عن المصّدِّقين والمصّدِّقات والنفقة في مجالات الإصلاح،وعظيم فضل ذلك عند الله سبحانه،ويتّضح هذا الفضل من قوله تعالى:(يضاعف لهم ولهم أجر كريم).
ثم يواصل الحديث عن الّذين آمنوا بالله سبحانه وبرسله، وبما جاؤوا به، فيوضّح أنهم هم الصدِّيقون الّذين صدقوا بقولهم وفعلهم، وهم الشهداء الّذين يشهدون يوم القيامة عند ربهم على من بُلِّغ بالرسالة ولم يستجب، أولئك لهم أجرهم ونورهم، وأولئك أصحاب النور الّذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم.
أمّا الكافرون الّذين كذّبوا بآيات الله فمصيرهم إلى الجحيم.
* * *
(إعلموا أنّما الحياة الدّنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد... ).
وفي هذه الآية الكريمـة تلخيص وتصوير حسي مدهش لطبيعة الحياة وعلاقة الإنسان بها. فالقرآن يصوّر الحياة لعباً ولهواً وزينة وتفاخراً بالأموال والأولاد، وليس لها من حقيقة باقية مستبطنة غير هذه المظاهر الزائلة الّتي لا تتعدى حدود إشباع الغرائز والأحاسيس النفسية ثم تفنى وتنتهي .
وفي هذه الآية يُقرّب القرآن صورة الحياة أمام الإنسان بما فيها من نضارة وجمال وإثارة فيشبِّهها بالنبات الّذي يعجب الزُرّاع بما يمثّل من نضارة وجمال وآمال بالعطاء، ثم يميل إلى الصفرة والجفاف حتّى يتحوّل حطاماً تذروه الرّياح، انّه تصوير جميل ومعبِّر عن حقيقة الحياة المجرّدة عن الآخرة ، ووصف الحياة بأ نّها لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر .
يقول الشيخ البهائي إنما هو وصف لمفهوم وحقيقة الحياة عند الإنسان حسب مراحل حياته، فالطفل والمراهق يكون متولعاً باللعب، ويقضي معظم وقته فيه، فإذا بلغ أشده تحوّل اهتمامه ووقته باللّهو والملاهي، فإذا بلغ أشده في مرحلة الشباب تحوّل اهتمامه إلى الزِّينة والجمال ، فإذا تجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة الكهولة أخذ بالمفاخرة في الأحساب والأنساب وغيرها، وعندما يدخل مرحلة الشيخوخة كان سعيه في تكثير المال والولد .
إنّ هذا الوصف القرآني هو للحياة الّتي لا يؤمن معها الإنسان بعالم الآخرة، ولا يعمل لها، ولا يوجه ما فيها للوصول إلى الجزاء الخالد في عالم البقاء، فهي تنتهي حطاماً تلتهمه جهنم ، وعذاباً دائماً .
أمّا من آمن واتقى، واستقام على الهدى، فإنه يتمتع بزينة الحياة، هذه وبما فيها من جمال ومتعة ونضارة، ثم مغفرة من الله ورضوان ونعيم .
ولكي ينقذ القرآن الإنسان من خداع الدّنيا وغرورها الزائل ، يكرِّر مرّة اُخرى وصف الدّنيا وما حوت من متع ولذات وشهوات بأنها متاع الغرور. والمتاع في لغة العرب هو ما يحمله المسافر في طريق السفر من الزاد والماء. وبذا يصف القرآن الحياة بأ نّها سفر عابر، وما فيها من مظاهر وزينة ولذات وشهوات، إن هي إلاّ متاع مسافر يخدع صاحبه، ويغرّه ان لم يجعله وسيلة لعالم الآخرة، وسبباً للشكر: (سابقوا إلى مغفرة من ربِّكم وجنّة عرضها كعرض السماء والأرض أعدّت ... ).
وإذا كانت الدّنيا متاع الغرور، فإن الآخرة هي مستقر الإنسان ودار خلوده; لذا دعا القرآن إلى المسابقة إلى المغفرة وجنان الخلد، والتفوق على الآخرين في التقوى ، والعمل الصالح، فإن الجنّة الّتي أعدت للمتقين الّذين آمنوا بالله ورسله، هي عالم مديد من الجمال والمتعة الخالدة سعتها كسعة السماوات والأرض، وان فضل الله العظيم سينالهم ويزيدهم عطاء غير مقطوع .
* * *
مَا أَصَابَ مِن مُصِيَبة فِي ا لاَْرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَاب مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَال فَخُـور (23) ا لَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِا لْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ ا لْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِا لْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ا لْكِتَابَ وَا لْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِا لْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ا لْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِا لْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَا لْكِتَابَ فَمِنْهُم مُهْتَد وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ا لاِْنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ا لَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ا لَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَ يُّهَا ا لَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ا لْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيء مِن فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ ا لْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو ا لْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) .
تفسير المفردات الآيات (22 ـ 29)
من قبل أن نبرأها : من قبل أن نخلقها. أي من قبل أن تُخلق الأنفس.
إلاّ في كتاب : أي لم يقع شيء وقوعاً عفوياً، أو صدفة غير مقدّرة ولا معلومة عند الله سبحانه. فلا شيء يقع في عالم الأرض والانسان الا وهو مُثبت في اللوح المحفوظ.
لكيلا تأسوا : لكيلا تحزنوا.
مختال : يتخيّل نفسه عظيماً. أي متكبراً.
أنزل معهم الكتاب : أنزل على النبيين الكتب. كالتوراة والانجيل والقرآن.
وأرسلنا رسلنا بالبيِّنات : أي بالدلائل الواضحة والمعجزات المثبتة.
رهبانية ابتدعوها : هم أحدثوها، وأدخلوها في الدين وهي ليست منه.
قَفّينا على آثارهم برسلنا: أي استمر تتابع ارسال الرسل من قبل الله تعالى الى أقوام آخرين.
كفلين : الكفل، هو الحظ والنصيب . ومعنى قوله تعالى: يؤتكم كفلين: أي يؤتكم نصيبين أي عطاء ضعفاً.
المعنى العام الآيات (22 ـ 29)
(ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب ... لكيلا تأسوا على ما فاتكم... ).
وبهذه الآية يكمل القرآن أسس الإيمان والتعريف بصفاته، ويثبِّت معالمه، فقد ثبّت أصل التوحيد وصفات الله سبحانه حين أوضح أن خالق السماوات والأرض هو الله المنزّه عن مشـابهة الخلق، المتصف بالكمال المطلق، المدبِّر للخـلائق جميعها ، الّذي إليه تُرجع الاُمور.
إنّ الوحي يأتي في هذه الآية فيوضِّح ان لا شيء يجري في عالم الأرض والإنسان، كما هو الحال في بقية العوالم، إلاّ بعلم الله وبإذنه وقضائه وقدره، فهي بالنسبة لخالق الوجود لم تكن أمراً حادثاً، ولا مسألة مستجدة في علمه وتقديره، بل علمه بها قديم، فهو كما وصف نفسه : الأوّل، والآخر، والظاهر، والباطن .
إنّ الإيمان بالقضاء والقدر هو أساس علاقة الإنسان النفسية السليمة بالله تعالى، وهو مصدر إنقاذ الإنسان من الخوف والقلق والإضطراب النفسي الّذي يقود الإنسان إلى مشاكل ومآس كثيرة وفقدان الراحة النفسية في الحياة .
لذا يوضِّح القرآن ان الوجود بأسره عالم منظَّم ومُسيّر، وذلك لا يعني إلغاء العقل والإرادة البشريتين، بل يعني أن هناك قوانين وأنظمة يسير وفقها الوجود الإنساني ومصالح الإنسان، وهي التي تصنع النتائج في هذا الوجود، الخيّرة منها والشرِّيرة قد أحاط بها علم الله، وهي معلومة لديه منذ الازل، وذلك يعني أن هذا العالم بأحداثه الإجتماعية والطبيعية لا يسير سيراً فوضوياً عشوائياً، تتلاعب به الفوضى والعبثية، إنما يسير وفق حكمة ونظام، وان ما يجري فيه من شر يصيب الإنسان، ان هو إلاّ بما كسبت يداه : (ظهرَ الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي النّاس ).
وإنّ ما توضِّحه الآية هو أن لا حدث يقع في عالم الأرض، أو على الإنسان ذاته، إلاّ وهو مثبت في كتاب الله، وعلمه به قديم كقدم ذاته المقدّسة .
فالحوادث الّتي تقع على الإنسان من الموت والمرض والغنى والفقر والآلام والمسرّات وغيرها، بعضها يصدر عن الله تعالى من غير أن يكون للإنسان دخل فيه، فالله هو الّذي قدّره، ولا يجري ذلك إلا لحكمة ومصلحة، ووفق معايير العدل واللطف الإلـهي، وان كرهه الإنسان ولم يدرك خيره ومصلحته .
قال تعالى موضّحاً هذه الحقيقة: (... وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئاً وهو شرّ لكم ).
ولعدل الله سبحانه فان ما يقع على الإنسان من آلام تقتضيها الحكمة الإلـهية ففيه العوض يوم الجزاء، وقسم مما يحدث للإنسان، ويقع عليه من الله سبحانه بصورة فردية أو جماعية إن هو إلاّ عقوبة إلهية، نتيجة لفعل الإنسان وسوء تصرفه في عالم الطبيعة والمجتمع.
وقسم آخر من الأفعال هو الأفعال الخيِّرة الّتي يختارها الإنسان بمحض إرادته واختياره، وتوفيق الله ولطفه الّذي استحقه بإيمانه وإخلاصه، يقابله الله سبحانه بالجزاء الخيِّر في عالم الآخرة، كما يحدث الآثار الإجتماعية والحياتية لصالح الإنسان.
وكلّ ذلك قد علمه الله سبحانه، فقد علم حقيقة الإنسان الفرد والجماعة، وبما تحوي النفوس، وما ستفعل نتيجة لتلك الحقيقة النفسية، كما أنه قدَّر الموت والحياة، وما يريد هو سبحانه أن يفعله بالأفراد والاُمم مبادأة منه، أو استحقاقاً لما فعلوا، فثبّته في كتاب ، أي صار حقيقة حتمية الوقوع.
والقرآن في خطابه هذا للإنسان يؤكد له أن ما يقع عليه من الله سبحانه مبادأة من الموت والمرض، والحوادث الاُخرى من الربح والخسارة، ما هو إلاّ أمر مضى تقديره لحكمة إلهية، فلا تجزعوا ولا تحزنوا على ما فاتكم من شيء تقدّرون وجوب وقوعه، ولم يقع، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وكما ينهى الإنسان عن الحزن والتألم لما يفوته، فانّه ينهاه
تفسير سورة الحديد
[b]سورة الحديد[size=9]
« مدنيّة ، وهي تسع وعشرون آية »
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سَبَّحَ للهِِ مَا فِي السَّماوَاتِ وَا لاَْرْضِ وَهُوَ ا لْعَزِيزُ ا لْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَا لاَْرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ (2)هُوَ ا لاَْوَّلُ وَا لاْ خِرُ وَالظَّاهِرُ وَا لْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيء عَلِيمٌ (3) .
تفسير المفردات الآيات (1 ـ 3)
سبّح لله ما في السماوات وما في الأرض : التسـبيح هو تنزيه الله عن كلِّ نقص، والاعتراف له بالكمال المطلق. والمعنى: أنّ كل ما في السماوات والأرض من مخلوقات تشهد بكمال الخالق، وتنزيهه عن صفات المخلوقين.
ويتحقق تنزيهه سـبحانه بالقول والفعل والنيّة. أي بالعقـيدة والقصد والعبادة.
العزيز : القوي الذي لا يُغلب، ولا يُعجزه شيءٌ، أي النافذ الإرادة والمشيئة.
الحكيم : الذي يتقن صنع الأشياء، ويُحسن تدبير الاُمور بعلمه.
هو الأوّل : هو الذي لا شيء قبله، من غير أن تكون لوجوده بداية.
الآخِر : الباقي بعد فناء كل شيء، وهو منزّه عن الفناء.
الظاهِر : الغالب المتفوِّق على الأشياء جميعها، وفُسِّر أيضاً بأ نّه الظاهر بالأدلّة والشواهد(19) فلا يخفى وجوده.
الباطن : المطّلع على بواطن الاُمور، العالم الخبير بما بَطَن: أي بما خفي من الاُمور. والمعنى: أنّه عالم بما ظهر وما بطن.
المعنى العام الآيات (1 ـ 3)
اختتم الله سبحانه سورة الواقعة بخطابه إلى نبيه الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)بقوله: (فسبِّح باسم ربّك العظيم )، ثم جاءت بعدها سورة الحديد(20) مباشرة في ترتيب السور مُبتدأة بقوله تعالى : (سبّح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ).
فجاءت الآيتان تكمل احداهما الاخرى في الهدف والبيان ، فبعد أن أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أن يُسبّح باسم ربّه العظيم ، إبتدأ سورة الحديد بالحديث عن تسبيح الخلائق ، فأوضح للإنسان أن عوالم الطبيعة ، بما فيها من جماد وحيوان وطير ونبات، كلّها تُسبِّح لله ، وتنزهه عن الشريك والشبيه والضد والمثيل والحاجة وفعل الشر والقبيح ، ليكشف للإنسان حقيقة كبرى في عالم الخلائق وهي أن الإنسان الموحِّد ، والملائكة المسبحين ، ليسوا وحدهم يسبحون لله وينزهونه .
جاء ذلك البيان بقوله سبحانه: (وإن من شيء إلاّ يسبّح بِحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).
فكل موجود في هذا العالم يعرف خالقه، ويسبح بحمده، يثني على عظيم صفاته، ويشهد له بالوحدانية بطريقة تناسب وجوده.
ومن مظاهر تسبيح الموجودات الّتي لا يجهلها العقل شهادتها بتنزيه خالقها بما تتصف به من دقة الخلق وعظمة الضبط والإتقان والتكامل في الغاية.. فكل ذلك يشهد باتصاف الخالق بالكمال المطلق، وينفي عنه العجز والعبث; لذلك وصف الخالق نفسه في هذه الآية بأنه عزيز حكيم، عزيز يشهد الكون بغلبته ومنعته ، كما يشهد بحكمته المتمثلة بالضبط والإتقان والكمال والحساب العلمي الموزون، ونفي العبث والتفاوت والفوضى في هذا العالم ، وهذه الخلائق المسبِّحة بحمد ربّها هي مُلكه، يدبِّر شؤونه بعزة وحكمة. ثم يوضّح أن قانون الموت والحياة في هذه العوالم هو جزء من قوانين هذا الوجود الّذي يسير بدقة وإتقان وحكمة، ويخضع لإرادة الله العزيز الحكيم القادر على كلّ شيء، فعلى الإنسان أن يتأمل هذه الحقيقة ليدرك انه جزء من هذه العوالم الّتي تسبّح لله وتنزهه فيكون من المسبِّحين.
عليه أن ينزّه الله فيوحّده بلسانه وقلبه وفعله وما حوت نفسه من قصد ونية، فيجعل قصده ونيته وعبادته ووجهته لله وحده فلا يشرك به أحداً.. ان القرآن يريد من المسبِّح الّذي ينزه المعبود عن الشر والنقص، ويثبت له الكمال والخير المطلق أن يطهّر قلبه ونفسه وعقله وفعله من الشر والفساد والجريمة. فينضم إلى تلك العوالم المسبّحة بحمد ربّها الّتي انطلقت وسارت في غايتها نحو الخير المطلق، فلا يشذ عن مسيرة التوحيد فيهلك، ويحل به غضب الله.
ولكي يزيد القرآن الكريم الإنسان وعياً ووضوحاً آخر ، ذكَّره بأن هذا الكون الّذي لا يعرف الإنسان له نهاية، هو مخلوق لله سبحانه، وله بداية ونهاية.
وأن خالق الوجود هو الأول الّذي لا بداية له، والآخِر الّذي لا يموت ولا يفنى، فهو منزه عن الزمان والمكان.
وان قانون الموت والفناء يجري على المخلوقات بأسرها ويتنزّه الله عن ذلك; لذا قال سبحانه: (هو الأوّل والآخر ).
ويتواصل حديث الباري جل ثناؤه، عن صفاته المقدسة ، وتعريفها للإنسان; لينزِّهه ويثني عليه فيصف نفسه بأنَّه (الظاهر والباطن ).
الظاهر العالي المتفوق بقوته وعلمه وعزّته على المخلوقات كلّها، وهو الظاهر للعقل والوجدان بما تشهد له الآيات والدلائل في هذا العالم.
وهو الظاهر الّذي اطّلع بعلمه على ما يفعل النّاس وما يجري في الوجود.
وهو الباطن الّذي خفي عن العيون والحواس، وملأ نور وجوده الخلائق.. انه وحده الّذي يوصف بالظاهر والباطن، فغيره لا يمكن أن يكون إلاّ ظاهراً واضحاً أو باطناً خفياً. أما هو سبحانه فهو الظاهر الّذي لا يُخفي وجوده شيء، غير أنّه منزّه عن أن تدركه الحواس، وهو الباطن المنزّه عن الظهور الّذي ألفه النّاس; لذا وصف وجوده الظاهر والباطن بقوله:(الله نور السماوات والأرض ) إنَّ وجوده لا يخلو منه وجود; لذا فهو لايوصف بأنه ظاهر فحسب، أو باطن فحسب، بل تفرّد بجمع الصفتين معاً خلافاً لما ألفه النّاس. وهو الباطن الّذي علم بواطِن الاُمور، واطّلع على ما تحوي السرائر
والضمائر . فقد أحاط علمه بظواهر الاُمور وبواطنها; لذا قال: (وهو بكل شيء عليم )فليس الظاهر والباطن بالقرب إليه إلاّ سواء.
فهو الحقّ والحقيقة الّتي ملأت الوجود كلّه، فتجلّت في كل شيء ، وتجلّى بها كلّ شيء، وأحاط بكل شيء علماً، بل كل شيء صدر عن علمه وإرادته، فما عداه مظهر زائل، وأثر باطل ، فهو الأول والآخر، وهو الظاهر والباطن، وهو الّذي خلق السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم، وهو على كلّ شيء قدير، وهو بكلّ شيء عليم، وهو معكم أينما كنتم، وهو عليم بذات الصدور، وهو الّذي ينزِّل على عبده آيات بيّنات، وهو الّذي يسبِّح له ما في السماوات وما في الأرض.
وهكذا تصنع هذه الآيات هالة من نور تتألق من خلالها الأسماء الحسنى ليبصر الإنسان بهديها حقيقة هذا العالم، ويشعر بالحضور الإلـهي الدائم يملأ عقله ووجوده ووجدانه ، فيستغرق في عالم المسبّحين، يُنزّه خالقه ويثني على عظيم صفاته، وليفيض هذا التسبيح على ذات الإنسان فتتنزّه عن الشر والظلم والعدوان، ونكران فضل الله ونعمه.
* * *
هُوَ ا لَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَا لاَْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى ا لْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ا لاَْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَا لاَْرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ ا لاُْمُورُ (5)يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ ا لَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَات بَيِّنَات لِيُخْرِجَكُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ (9) .
تفسير المفردات الآيات (4 ـ 9)
استوى على العرش :العرش : يعني هنا الملك . والاستواء : هو الاستيلاء والهيمنة والمعنى أن الله مُهيمن ومسيطر على الملك بأسره . وقيل أن الاستواء على العرش : هو الاستواء من كل شيء، فليس شيء أقرب اليه من شيء. فقرب الأشياء جميعها بالنسبة اليه واحد، فهو الذي لا يخلو من وجوده وجود.
يلج في الأرض :يدخل فيها.
يعرج فيها :يصعد في أجوائها.
يولج الليل في النهار :يدخل أحدهها في الآخر. والمعنى اختلافهما في الطول والقصر على امتداد الفصول الأربعة فيحتل أحدهما جزءاً من وقت الآخر.
ذات الصدور :ما تخفيه وتُسرُّه النفوس والضمائر.
المعنى العام الآيات (4 ـ 9)
في قـوله تعالى : (هو الّذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى(21) على العرش(22)... ) . يتحدّث القرآن عن خالق السماوات والأرض، وخلقها في ستة أيّام، إنَّه يتحدّث عن تقدير الأمد الزماني الّذي استغرقه تكوّن العالم مقاساً على اليوم الطبيعي المألوف لدى الإنسان; لينطلق العقل متأملا في عظمة الله سبحانه ، ومتصوراً ما قبل ظهور العالم إلى الوجود.
لقد بدأ القرآن الحديث مع الإنسان من نقطة البداية فأوضح أن الأول من غير بداية هو الله سبحانه، ثم تحدَّث عن خلق السماوات والأرض في ستة أيام، تلك المدة الزمنية القصيرة الدّالة على عظمة الله سبحانه .
والحديث عن (العرش) و(الإستواء) حديث عن مصطلحين عقيديين، ومفهومين يحتاجان إلى إيضاح وبيان يتفق وعقيدة التوحيد، وتنزّه الله سبحانه عن مشابهة الخلق وعن العرش والاستواء المادّيين. وعندما نتحدث عن العرش والإستواء ، يجب أن نعرف أن للقرآن أساليب بلاغية، وتعابير استخدمت المجاز والكناية لتقريب الأفكار والمفاهيم الغيبية إلى فهم الإنسان من خلال ما يعرفه ويتصوره في عالم الحس . لذا مهّد لهذا البيان بقوله: (له ملك السماوات والأرض)، ثم ربط بين هذه الآية والآية الأخرى بقوله: (خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش)، يتضح من ذلك أن العرش هو كناية عن الملك والسلطان، وأن الإستواء كناية عن تولي اُمور الخلائق وإدارة شؤونها، وأن كلّ ما في هذا الملك مستوي النسبة إليه في العلم والقرب والقدرة عليه . مهما صغر أو كان عظيماً ، وليس المقصود بالعرش والاستواء هو المعنى المادي المألوف لدينا فالله منزه عن ذلك .
يوضح هذه الحقيقة قوله تعالى : (وما قدروا الله حقّ قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يشركون) (الزّمر / 67) .
فالمقصود بهذه الآية هو هيمنة الخالق العظيم ، وسيطرته على السماوات والأرض .
* * *
(يعلمُ ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ).
وبعد أن تحدثت الآية السابقة عن احاطة علم الله بكل شيء ، وجّهت الآية اللاّحقة الأنظار إلى علمه سبحانه بما يدخل الأرض ، ويستقر تحت سطحها من بذور لتنبت وأشعة وغازات وحرارة ، وما يخرج منها من نبات وبخار وحرارة وغازات متصاعدة في أجواء السماء ... إلخ .
ومن هذه الآية نفهم الأخذ والعطاء ، أو وحدة النظام بين الأرض والفضاء، وتأثير بعضها بالبعض الآخر ، وفي هذا البيان القرآني: (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) يريد الوحي أن يزيح الحجب عن النفس البشرية، ويهيّئها لتقبُّل العمل الصالح ، وليشعر الإنسان بحضور الخالق معه في كلّ زمان ومكان ، ويُحسِّسه بإحاطة علمه بما تحوي النفوس ، وما يصدر عن الإنسان من قول وفعل، لئلا يغفل عن وجود خالقه ، وليرى الله معه في سِرِّه وعلنه رقيباً عليه محيطاً به، فلا يقدم على معصية، ولا يخاف غير الله، ولا يستوحش من الوحدة في الثبات على الحقّ ومواجهة الطواغيت.
* * *
(له ملك السّماوات والأرض وإلى الله ترجع الاُمور ).
ثم يتحدث مرة أخرى عن الخالق المالك للسماوات والأرض الّذي يدبر شؤون الخلائق ويسيّر الوجود وما يحدث فيه ، فيذكِّر بأن مصير الاُمور لله الّذي له الملك ، فإن مالك السماوات والأرض هو مالك الاُمور كلّها.
ثم يوجه القرآن نظر الإنسان إلى حوادث الليل والنهار، وما يصاحبهما من زيادة ونقصان يحتل أحدهما من الآخر الفارق في المساحة الزمنية الّذي يحدث على مدى الفصول الأربعة. فيقول: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور)فالآية تشير إلى الحركة الدائرية التي تنتج الليل والنهار، فايلاج الليل في النهار وايلاج النهار في الليل يشكل دائرة تامة كما ترسمها الآية الكريمة ، ثم يعود القرآن بقوله: (وهو عليم بذات الصدور) ليجعل محور الحديث والخطاب هو الإنسان فيذكّره بأن خالق ذلك الوجود عالم بما تحوي النفوس والضمائر عالم بما يتوارد على نفس الإنسان من الظلمة والنور، كما هو عالم بما يتوارد على الأرض من ظلمة الليل وضياء الشمس ، فعلى الإنسان أن يطهّر نفسه وضميره ومشاعره من الشر والفساد، فالله سبحانه يدعوه الى تنزيه نفسه، كما دعاه الى الاعتقاد بتنزيه بارئه.
وبالعودة الى قراءة هذا المقطع من الآيات يتجلى لنا من خلالها التأكيد على حقائق ثلاث هي:
1 ـ التعريف ببعض أسمائه الحسنى: «العزيز، الحكيم، الملك، المحيي، المميت، القدير ، الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، العليم، الخالق، البصير»، وبيان مظاهر تجلي تلك الأسماء وإشراقات آثارها في عالم المخلوقات (النفس والطبيعة) التي تحدَّث عنها.
2 ـ التأكيد على صفة العلم الإلهي والحديث عن تجلّي آثارها بشكل مُبرَّز، جاء ذلك في قوله :
* الباطن والظاهر .
* بكل شيء عليم .
* يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها.
* يعلم ما ينزل من السماء وما يعرج فيها.
* هو معكم أينما كنتم حاضر لايغيب، أحاط بكل شيء علماً.
* والله بما تعملون بصير: عالم ، مُطّلِع على الحقيقة.
* عليم بذات الصدور.
3 ـ تنزيه الله سبحانه عن مشابهة الخلق، والدعوة إلى تنزيه الذات البشرية عن الكفر والشر والفساد.
المعنى العام الآيات (7 ـ 9)
وبعد أن تحدّث الوحي في الآيات الأولى من هذه السورة عن الخلق والخالق وعرّف بصفاته وعظمته ، واطّلاعه على ما في الكون والحياة والنفس البشرية، دعا الإنسان الى الإيمان بالله ورسوله ايماناً صادقاً يقوم على أساس التوحيد; توحيد الله وتنزيهه ومعرفته وطاعته ، بعيداً عن الشوائب والنفاق، فإن الخالق لا يخفى عليه شيء مما انطوى عليه ضمير الإنسان ونفسه.
وبعد أن دعا إلى الإيمان بالله ورسوله دعا الى إنفاق المال. فوضّح لنا بهذه الآية حقائق أساسية في حياة الفرد والمجتمع ونظام الإقتصاد والعيش والملكية وهي:
1 ـ ثبّتت لنا هذه الآية مبدأً هاماً في نظام الملكية مبنياً على عقيدة الإيمان بالله وعلى ما تقدم من آيات فوضّحت أن الملك لله، وأن الأشياء جميعها تصير إليه وتعود.
وتأسيساً على هذا المبدأ فان ما بيد الإنسان من مال وثروة ، هو ليس له في حقيقته، إنما هو لله ، والإنسان مستخلف فيه ، أي ان الإنسان جُعل خليفة في الأرض جيلا بعد جيل ليمارس دوره وفق قانون الإستخلاف، ومنه قانون المال والملكية، وبذا وضّح لنا القرآن أن الملكية علاقة وقتية بين الإنسان والمال تنتهي بانتهاء حياته، لينتقل إلى غيره; وبذا تكون الملكية وظيفة اجتماعية ، ويكون المالك موظّفاً على ما يملك; وعليه أن يتعامل مع المال وفق القانون الإلـهي الذي أمر بإنفاقه لمصلحة المجتمع وإصلاحه، وتثبيت مبادئ الهدى، وتحريم تجميده ومنعه عن المحرومين وذوي الحاجة.
2 ـ ربط بين الإيمان بالله ورسوله ، وبين نفقة المال والجزاء الاُخروي ، ليوضح ان من يؤمن بالله ورسوله ، وبأن الملك لله وحده ، وأن الحياة فانية ، والبقاء في عالم الآخرة، يتجسد صدق إيمانه هذا في نفقة المال في سبيل الله ، فينفقهُ في كل ما يرضي الله سبحانه. كبناء المساجد والمدارس ، وملاجئ الأيتام والمستشفيات ، ومساعدة المحتاجين ، ونشر العلم والثقافة الإسلامية ، والجهاد في سبيل الله ، والدعوة الى الله ، والتوسعة على العيال..... لحماية المجتمع من الحرمان والإنحراف والمعصية والجريمة. وبذا يكون المال لخدمة العقيدة وتوفير خير الإنسان ، وليس للجمع والتكديس والتسلط والاستئثار ، واشباع غريزة الجشع وحب المال الأنانية.
* * *
(وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربِّكم... ).
وفي هذه الآية يوبخ القرآن تلك الفئة التي أعلنت إيمانها ، ولم يثبت هذا الإيمان ثبوتاً راسخاً في النفوس ولم يصدِّقه العمل. فهو يدعوهم إلى الإيمان الصادق الذي يتجسد في الطاعة لله ولرسوله ، والعمل بشريعته وقوانينه ، كما يدعوهم له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). ومن مصاديق ذلك الإيمان والطاعة ، هو النفقة في سبيل الله، فان نفقة المال في سبيل الله تُبرهن على أن حب المؤمن لله ، هو أعظم من حبه للدنيا وما فيها.
ان القرآن يُوبِّخ من لم يؤمنوا بربهم حق الايمان، ربهم الذي أنشأهم ورزقهم ووفر لهم معيشتهم في هذه الحياة ، ليربط بين النفقة والربوبية ، ويذكِّر بإحسان الله ; لذا قال لهم: (والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربِّكم... )، فقد استعمل صفة الربوبية هنا ; لأنّ الربّ في اللغة : المالك والسيد والمنشِّئ والمربِّي والمتكفِّل بمصلحة الشيء، وفي هذه الآية يُذكّرهم أيضاً بالميثاق الّذي واثقوا به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما عرض عليهم الإسلام فأعلنوا تصديقهم، وتعهدوا له بالإلتزام بكل ما حوت رسالته ودعوته، يذكّرهم أن النفقة في سبيل الله هي إحدى مصاديق الطاعة لله ورسوله الّتي جاءت في الميثاق الّذي أخذه الرسول عليهم.
* * *
(هو الّذي يُنزِّل على عبدهِ آيات بيِّنات ... ).
وبعد أن عرّف الله سبحانه نفسه، وما اتصف به من صفات الربوبية والأسماء الحسنى، وما أفاض على البشرية من برٍّ وإحسان ، عاد فبيّن أن هذا الربّ العظيم هو الّذي نزّل (على عبدهِ آيات بيِّنات )، وفي هذه الفقرة من الآية تحتشد المعاني الكبيرة والحقائق العقيدية العظيمة ، ففيها يؤكّد بشرية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وعبوديته لله، لئلا يطلبوا من الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)تحقيق ما يفوق طاقة البشر، وليؤكد لهم أن عظمة شخصية الرسول في عبوديته لله سبحانه.
وفي الفقرة ذاتها يؤكِّد حقيقة ترتبط بالخطاب الإلهي بأنه خطاب واضح : (آيات بيِّنات ) بيّن لمن أراد أن يفهم الحقيقة. ثم يتواصل البيان القرآني للكشف عن أهداف الرسالة الإلهية ومهام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المعبِّرة بمجموعها عن لطف الله بالإنسان ورحمته ورأفته به. فالهدف من كل ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو إنقاذ الإنسان، وإخراجه من الظلمات الى النور... من ظلمة الجهل بالله سبحانه الى نور معرفته، ليمتد هذا النور فيضيء العقول والنفوس، ويوضح الطريق والمسار أمام الإنسان; ليسير على وعي وعلم وبصيرة، ونقاء نفسي ووجداني متأ لِّق .
* * *
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّماوَاتِ وَا لاَْرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ا لْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ ا لَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ ا لْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَن ذَا ا لَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى ا لْمُؤْمِنِينَ وَا لْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ا لْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ا لاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذلِكَ هُوَ ا لْفَوْزُ ا لْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ ا لْمُنَافِقُونَ وَا لْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُور لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ا لْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ ا لاَْمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُم بِاللهِ ا لْغَرُورُ (14)فَا لْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ ا لَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ ا لْمَصِيرُ (15) .
تفسير المفردات الآيات (10 ـ 15)
مَنْ أنفق من قبل الفتح :مَنْ أنفق من قبل فتح مكة.
يُقرض الله :يُنفق المال في سبيل الله ، فكأ نّه أقرض الله ، ليُوفِّيه إليه يوم الجزاء .
يسعى بين أيديهم :ينتشر ويسير أمامهم.
وبأيمانهم:وترى النور يشع من أيمان المؤمنين،أي:من كتاب الأعمال الذي يحمله المؤمن بيمينه.
اُنظرونا نقتبس من نوركم :إنتظرونا نقتبس من نوركم.
إرجعوا وراءكم :إرجعوا الى عالم الدنيا، واعملوا الصالحات التي تستحقون بها النور والضياء. وفي هذا الجواب سُخرية وتوبيخ.
فتنتم أنفسكم :أوقعتموها في بلية وعذاب(23).
تربّصـتم :التربُّص هو الإنتظار، والمعنى: بقيتم منتظرين ما سيحدث بمحمد 6 وبالمؤمنين من نوائب فلم تقدموا على الإيمان بالله. وذلك يكشف ما في نفوسهم من نفاق.
إرتبتم :شككتم في وقوع الآخرة والجزاء.
الغَرور :الشيطان ، وكل ما يُغرِّر بالإنسان.
فدية :البدل الذي تُفدى به النفوس وتنقذ. كالمال الذي يبذله الأسير لانقاذ نفسه من الأسر.
هي مولاكم :هي (النار) أولى بكم، أي مصيركم الى النار، فهي التي تتحكم بكم.
المعنى العام الآيات (10 ـ 15)
ثم يعود مرّة اُخرى مُستفسِراً استفسار المستنكِر للبخل والشُّح والإمتناع عن نفقة المال في سبيل الله قائلا: (وما لكم ألاّ تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض ... ).
انّهُ يُذكرِّ، ويكشف لأولئك الّذين جمعوا المال، وكدَّسوا الثروة، وحرموا الآخرين من الإنتفاع به، وامتنعوا عن الإنفاق في سبيل الخير والدعوة إلى الله، ونصرة مبادئ الحقّ والهدى... انه يكشف حقيقة غائبة عن وعيهم، وهي أن المال هو لله سبحانه، وأن كل شيء مصيره إليه، وستنقطع علاقة التملك بينهم وبين المال عند انقطاع حياتهم ، فما لهم لا يدركون هذه الحقيقة، فينفقوا المال، ويحصلوا على مرضاة الله، وما أعدَّ من عوض مضاعف للمحسنين المنفقين في سبيله.
* * *
(لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة ).
وفي هذا المقطع من الآية يوضح القرآن العناصر الّتي تؤثر في قيمة النفقة عند الله سبحانه فيربط بين العنصر النفسي لدى الإنسان والظروف الموضوعية الّتي ينفق فيها المال كمقياس لقيمة النفقة ، ومقدار الأجر والجزاء الإلـهي عليها.
ان الّذي ينفق ماله حين الشدة والإضطهاد وساعات العسرة لينقذ الموقف، وينصر الحقّ، ويدافع بماله عن الإيمان، انّما يكشف عن درجة أعلى من الإخلاص، وعدم الرغبة في المكاسب الدنيوية، متحدياً الأعداء وسلطة الطاغوت الّتي تحارب المنفقين في سبيل نصرة الحقّ، وإسناد دعاة الإسلام بالمال. لذا قارن القرآن بين قيمة الإنفاق والقتال قبل فتح مكة، وبين قيمتيهما بعد الفتح. وفضَّل من أنفق وقاتل قبل الفتح على من أنفق وقاتل بعد الفتح; لاختلاف ظروف الإنفاق في الشدة والرخاء.
وكما يتحدّث القرآن عن قيمة انفاق المال حين الشدة والحاجة إليه لنصرة الحقّ والمبادئ، فانه يتحدث عن الجهاد، وبذل الجهود، وتجنيد الطاقة الجسدية والفكرية لنصرة الحقّ حين الشدة والمحنة الكبرى، وفي مواقف الحسم وساعات الفصل التي يتوقف عليها مصير المواجهة وتحقيق الأهداف الرسالية الكبرى. لذا كان للبدريين فضلهم، وكان لهم شأنهم; لقد كانت معركة (بدر الكبرى) معركة الحسم وساعة الفصل بين مسارين في تأريخ البشرية، فلولا ثبات الطليعة الّتي أحبت أن يكون لها الموقف ذات الشوكة لما تحقق ذلك النصر العظيم.
ثم يعقّب القرآن على هذه المفاضلة بقوله: (وكلا وعد الله الحسنى والله بما يعملون خبير).
يعقب بهذا البيان لسحب أثر الصدمة النفسية التي قد تصيب من يتأخر عن المبادرة في النفقة والجهاد، وليؤكِّد له أن عدل الله سبحانه يقضي بالجزاء بالحسنى لكل من أحسن، وليس هذا فحسب، بل ووضع المتأخرين الى جوار المتقدمين في استحقاق الحسنى رغم تفاوت الدرجة.
* * *
(مَن ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وله أجر كريم ).
ويتتابع حديث القرآن عن الإنفاق في سبيل الله، وتعظيم قيمته العقيدية فيجعله قرضاً على الله سبحانه يُوفّى لمقرضه يوم الحساب وفاءً مضاعفاً. ووعدُ القرآن في آيات عدة بالمضاعفة يصل الى سبعمائة ضعف، قال تعالى : (كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبّة والله يضاعف لمن يشاء ). إنها دعوة مشجّعة لمن آمن بيوم الحساب أن يدخر ماله قرضاً في خزائن الله، منتظراً الأجر الكريم، والثواب الجزيل، فهي في حساب المؤمنين عملية ادخار واحتياط لعالم الآخرة، إنها دعوة لانفاق المال وادخاره واستثماره في سبيل الخير والخدمة الاجتماعية، ونصرة القيم والمبادئ الاسلامية الخيّرة، لتغذية جسم المجتمع، ولفك الحصار عن المال، لكي لايكون حصراً متداولا بين طبقات الأغنياء، ولتحرير النفس البشرية من عقدة البخل والشح والأنانية الإحتكارية الّتي تقود الى حرمان الطبقات الفقيرة، وتأجيج نار الحقد والصراع، وجر المجتمع الى التخلف، وقتل الإحساس الوجداني ومشاعر الضمير الحي.
ان الدعوة الى الإنفاق هي دعوة لتحرير المنفق من أسر المال وموت الضمير وغياب الحس الوجداني، كما هي دعوة لتحرير المستضعفين من أسر الفقر والتخلف والحاجة.
* * *
(يوم ترى المؤمنين والمؤمنات نورهم يسعى بين أيديهم... ).
وفي هذه الآية الكريمة عود على حديثه عن الإيمان بالله ورسوله وبما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من هدي وإنقاذ للبشرية، وإخراج لها من الظلمات إلى النور، ومواصلة لما سبق من وعد بالأجر الكريم للذين آمنوا وجاهدوا وأنفقوا في سبيل الله، وبيان لموعد الوفاء، وهو يوم الجزاء يوم ترى المؤمنين والمؤمنات نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم.
وفي هذه الآية يصوّر القرآن مشهداً من أكثر مشاهد القيامة المحيطة بالمؤمنين بهجة وإشراقاً، كما يصوّر في الجانب الآخر مشهداً آخر من مشاهد البؤس والظلمة والشقاء المحيطة بالمنافقين، فيرسم من خلال هذا العرض صورة المؤمن وأحداث المشهد: المؤمنون والمؤمنات في هالة من نور، وسعة من الإضاءة والإشراق. ومن خلال هذا المشهد الألق يوحي بحقيقة فكرية وتشريعية تعرِّف بقيمة المرأة في نظر القرآن، فتوضِّح مساواتها للرجل في القدر والجزاء والمآل، دونما تفريق أو تمييز بسبب الجنس، انها مع أخيها المؤمن في هالة من نور في سرادق الحب والرحمة والحبور، إنه منتهى الإحترام والتكريم للمرأة في عالم القيم والمبادئ.
إنّه النور الّذي يهتدون به في السير إلى مأواهم النهائي، والدليل الّذي يوصلهم من ساحة الحشر والحساب إلى رياض الجنّة والنعيم قبل أن يتقرر المصير. وهكذا يمتاز الفريقان: المؤمنون في هالة من النور، والمنافقون تطوِّقهم دياجير الظلام ، فينطلق موكب النور ثابت الخطى والمسير، ويقف المنافقون والمنافقات متخبّطين، لا يبصرون من الطريق موطئ القدم، فيتوجهون إلى المؤمنين والمؤمنات بذلّة واستجداء قائلين: انتظرونا لنقتبس من نوركم، ونهتدي به، كما يهتدي السائر بحامل المصباح، فلا يسمعون غير سخرية الرد: إرجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً، إرجعوا إلى عالم الدّنيا، وآمنوا بالله واعملوا الصالحات، لكي تستحقوا النور والضياء.
وهكذا يصوِّر القرآن تراكم الظلمة حول المنافقين، وتأ لّق مشهد النور وهالة الضياء حول المؤمنين، ثم يزداد المشهد افتراقاً بين الفريقين، وينتهي الحوار فيُضرب بينهما بسور باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب.. وهكذا ينفصل العالمان: عالم الجنّة وعالم النّار بسور حاجز يُضرب بينهما.. غير أن التخاطب يستمر، والحوار يتواصل، فالسور لا يحجز الصوت والنداء بين الجنّة والنّار كما يصوِّر القرآن هذه الحقيقة.
إنّ هذا الحوار، ومشهد الظلمة والنور، يكشفان لنا عن قيمة الإخلاص، وصدق النية الّتي صورها الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) بقوله: «ألا وأنّ النيّة هي العمل».
فهو حوار بين المنافقين الّذين يظهرون الإيمان، ويمارسون الأفعال الخيّرة رياء ونفاقاً، وبين المؤمنين الّذين آمنوا وعملوا الصالحات بصدق وإخلاص.
إنّ ما يحيط بهم في ذلك العالم من الظلمة والعذاب، هو حقيقة ما حملته نفوسهم من نفاق وسوء قصد.
ويستمر القرآن في عرض صورة الحوار بين المؤمنين والمنافقين.
فالمنافقون الّذين كانوا في عالم الدّنيا مع المؤمنين يعرفونهم، ويعملون أعمالهم من الصلاة والنفقة; لذا يستولي عليهم الإحباط والذهول مما يحيط بهم يوم القيامة، فينادون المؤمنين مرة اُخرى، بعد أن يئسوا من أن يخرجوا من الظلمة وألوان العذاب، ينادونهم: (ألم نكن معكم... ) نؤدِّي الصلاة والصوم ونتصدّق ، ونفعل ما تفعلون ، فلماذا حلّ بنا هذا العذاب ، وأحاطت بنا تلك الظلمة الموحشة المروّعة؟
فيأتي الجواب من المؤمنين ان سبب إحباط أعمالكم وضياعها، هو أنكم فتنتم أنفسكم بالنفاق، وأوقعتموها في الفتنة، فاقترفتم المعاصي، وكنتم تضمرون الشر في أنفسكم للرسول والمؤمنين، كنتم تتربصون بهم، ولم تبنوا عملكم على إيمان صادق مخلص، بل كان الشك واضطراب العقيدة يسيطر عليكم، وخدعتكم أنفسكم بالأماني الكاذبة، وأقنعتم أنفسكم بأنّ محمداً سيموت ، وأنّ الإسلام سينتهي، فكان عملكم كذباً ونفاقاً، لقد غرّكم الشيطان، وما رأيتم من أسباب الغرور في عالم الدّنيا فأضعتم عملكم، وأهلكتم أنفسكم، واستمرّت بكم هذه الحال حتّى جاءكم الموت، وحشرتم في هذا الموقف الرهيب، فلا مُخلِّص ولا منجاة لكم من النّار، ولن تقبل منكم فدية للخلاص، كما لا تقبل من الكافرين، إن مكانكم الّذي تأوون إليه هو النّار، فهي أولى بكم، فبئس المولى وبئس المصير.
إنّ هذا الحوار موعظة وتعريف لمن يقرأ القرآن عبر أجيال البشرية ، ولمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد.
وهكذا يعرض القرآن ان قيمة العمل تتجسد بالاخلاص لله وأن النفاق هو خداع للنفس، وتضليل لها وجناية عليها.
* * *
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ا لْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَا لَّذِينَ أُوتُوا ا لْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ا لاَْمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِي الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ا لاْيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ ا لْمُصَّدِّقِينَ وَا لْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضَاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَا لَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَا لَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ ا لْجَحِيمِ (19)اعْلَمُوا أَ نَّمَا ا لْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ا لاَْمْوَالِ وَا لاَْوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْث أَعْجَبَ ا لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي ا لاْخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا ا لْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ ا لْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَة مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّماءِ وَا لاَْرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو ا لْفَضْلِ ا لْعَظِيمِ (21) .
تفسير المفردات الآيات (16 ـ 21)
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم :أما حان للمؤمنين أن تخشع قلوبهم.
فطال عليهم الأمد :الأمد: الزمن الذي ينتظر به وقوع الشيء، والمعنى: طال الفاصل الزمني بينهم وبين وقوع العذاب بهم، وقيل طال الزمان بينهم وبين أنبيائهم .
تكاثر بالأموال والأولاد:مباهاة بالأموال والبنين.
الصدّيقون :جمع صدّيق، وهو الكثير الصدق. ويراد به هنا: الصادق في القول والعمل.
غيث :مطر.
أعجب الكُفّار نباته :الكُفّار(24) هنا هم الزرّاع، وسُمي الزارع بهذا الاسم; لأ نّه يكفّر البذور ، أي يغطيها بالتراب، وسمي الكافر برسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)كافراً ; لأ نّه يغطي الإيمان. وذهب بعض المفسرين الى أن معنى الكُفار هنا هم الكافرون بالله، لأنهم اكثر من غيرهم إعجاباً بمظاهر الدنيا وعطائها الزائل كحقول الزرع وغيرها.
يهيج فتراه مُصفراً :يبلغ أعلى مراحل نموه فيصفر وييبس.
المعنى العام الآيات (16 ـ 21)
(ألم يأن للّذين آمنوا أن تخشع قلوبهم.... ).
وبعد أن تحدّث القرآن عن ذلك المشهد فصوّر الأمل والألم والظلمة والنور والرحمة والعذاب في عالم الآخرة، عاد مرة أخرى ليخاطب المؤمنين، ويدعوهم إلى التعمّق في الإيمان، وتفاعل القلب والنفس معه، ليظهر ذلك الإيمان على سلوكهم ومواقفهم بشكل أعمق، وأكثر تغييراً وانتقالا من الأوضاع الّتي كانوا يعيشونها قبل الإسلام.
لقد جاء الخطاب بصيغة سؤال المتعجب: (ألم يَأْنِ للّذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق... ).
إنّ الوحي يعاتب فريقاً من المؤمنين، بعد مرور سنين طوال من نزول الحقّ وتواصل الذِّكر، على عدم حصول التغيير الكامل في نفوسهم ومواقفهم، انّه يسألهم ألم يحن الوقت بعد مرور هذه المدة على إسلامكم أن تصل قلوبكم إلى مرحلة الخشوع لذكر الله، ولما نزل من الحقّ؟ فان الخشوع أصدق مظاهر الإيمان وحصول التغيير الشامل في النفس.
إنّ تتابع الوحي والذكر يجب أن يعمّق ويكمل في نفوسكم التغيير، ولا تكونوا كالّذين اُوتوا الكتاب من قبلكم، من اليهود والنصارى، الّذين طال عليهم الأمد، مرّت عليهم الفترة الزمنية الطويلة بينهم وبين الأنبياء فقست قلوبهم، وابتعدت عن ذكر الله تعالى، فاقترفوا الجرائم والمعاصي، فانتشر فيهم الفسق والإنحراف.
وبهذه الآية يدعو القرآن الإنسان المخاطب إلى رقة القلب، والخشوع لذكر الله ولدعوة الحق ; لئلاّ يقسو قلبه فيتحوّل إلى مجرم ومسيء.
بعد ذلك يخاطبهم القرآن بقوله: (اعلموا أن الله يُحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلّكم تعقلون ).
وفي هذا الخطاب دعوة إلى استخدام العقل لتفهّم حقيقة كبرى محسوسة لدى الإنسان، وهي إحياء الأرض الميتة بالنبات والزهور والثمار والنضارة والجمال. وإيحاء للعقل البشري بأن الّذي يحيي الأرض يحيي القلوب القاسية والضمائر الميتة بالهدى ونور الإيمان ومكارم الأخلاق.
ثم يعود الوحي للتحدث عن المصّدِّقين والمصّدِّقات والنفقة في مجالات الإصلاح،وعظيم فضل ذلك عند الله سبحانه،ويتّضح هذا الفضل من قوله تعالى:(يضاعف لهم ولهم أجر كريم).
ثم يواصل الحديث عن الّذين آمنوا بالله سبحانه وبرسله، وبما جاؤوا به، فيوضّح أنهم هم الصدِّيقون الّذين صدقوا بقولهم وفعلهم، وهم الشهداء الّذين يشهدون يوم القيامة عند ربهم على من بُلِّغ بالرسالة ولم يستجب، أولئك لهم أجرهم ونورهم، وأولئك أصحاب النور الّذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم.
أمّا الكافرون الّذين كذّبوا بآيات الله فمصيرهم إلى الجحيم.
* * *
(إعلموا أنّما الحياة الدّنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد... ).
وفي هذه الآية الكريمـة تلخيص وتصوير حسي مدهش لطبيعة الحياة وعلاقة الإنسان بها. فالقرآن يصوّر الحياة لعباً ولهواً وزينة وتفاخراً بالأموال والأولاد، وليس لها من حقيقة باقية مستبطنة غير هذه المظاهر الزائلة الّتي لا تتعدى حدود إشباع الغرائز والأحاسيس النفسية ثم تفنى وتنتهي .
وفي هذه الآية يُقرّب القرآن صورة الحياة أمام الإنسان بما فيها من نضارة وجمال وإثارة فيشبِّهها بالنبات الّذي يعجب الزُرّاع بما يمثّل من نضارة وجمال وآمال بالعطاء، ثم يميل إلى الصفرة والجفاف حتّى يتحوّل حطاماً تذروه الرّياح، انّه تصوير جميل ومعبِّر عن حقيقة الحياة المجرّدة عن الآخرة ، ووصف الحياة بأ نّها لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر .
يقول الشيخ البهائي إنما هو وصف لمفهوم وحقيقة الحياة عند الإنسان حسب مراحل حياته، فالطفل والمراهق يكون متولعاً باللعب، ويقضي معظم وقته فيه، فإذا بلغ أشده تحوّل اهتمامه ووقته باللّهو والملاهي، فإذا بلغ أشده في مرحلة الشباب تحوّل اهتمامه إلى الزِّينة والجمال ، فإذا تجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة الكهولة أخذ بالمفاخرة في الأحساب والأنساب وغيرها، وعندما يدخل مرحلة الشيخوخة كان سعيه في تكثير المال والولد .
إنّ هذا الوصف القرآني هو للحياة الّتي لا يؤمن معها الإنسان بعالم الآخرة، ولا يعمل لها، ولا يوجه ما فيها للوصول إلى الجزاء الخالد في عالم البقاء، فهي تنتهي حطاماً تلتهمه جهنم ، وعذاباً دائماً .
أمّا من آمن واتقى، واستقام على الهدى، فإنه يتمتع بزينة الحياة، هذه وبما فيها من جمال ومتعة ونضارة، ثم مغفرة من الله ورضوان ونعيم .
ولكي ينقذ القرآن الإنسان من خداع الدّنيا وغرورها الزائل ، يكرِّر مرّة اُخرى وصف الدّنيا وما حوت من متع ولذات وشهوات بأنها متاع الغرور. والمتاع في لغة العرب هو ما يحمله المسافر في طريق السفر من الزاد والماء. وبذا يصف القرآن الحياة بأ نّها سفر عابر، وما فيها من مظاهر وزينة ولذات وشهوات، إن هي إلاّ متاع مسافر يخدع صاحبه، ويغرّه ان لم يجعله وسيلة لعالم الآخرة، وسبباً للشكر: (سابقوا إلى مغفرة من ربِّكم وجنّة عرضها كعرض السماء والأرض أعدّت ... ).
وإذا كانت الدّنيا متاع الغرور، فإن الآخرة هي مستقر الإنسان ودار خلوده; لذا دعا القرآن إلى المسابقة إلى المغفرة وجنان الخلد، والتفوق على الآخرين في التقوى ، والعمل الصالح، فإن الجنّة الّتي أعدت للمتقين الّذين آمنوا بالله ورسله، هي عالم مديد من الجمال والمتعة الخالدة سعتها كسعة السماوات والأرض، وان فضل الله العظيم سينالهم ويزيدهم عطاء غير مقطوع .
* * *
مَا أَصَابَ مِن مُصِيَبة فِي ا لاَْرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَاب مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَال فَخُـور (23) ا لَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِا لْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ ا لْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِا لْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ا لْكِتَابَ وَا لْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِا لْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ا لْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِا لْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَا لْكِتَابَ فَمِنْهُم مُهْتَد وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ا لاِْنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ا لَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ا لَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَ يُّهَا ا لَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ا لْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيء مِن فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ ا لْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو ا لْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) .
تفسير المفردات الآيات (22 ـ 29)
من قبل أن نبرأها : من قبل أن نخلقها. أي من قبل أن تُخلق الأنفس.
إلاّ في كتاب : أي لم يقع شيء وقوعاً عفوياً، أو صدفة غير مقدّرة ولا معلومة عند الله سبحانه. فلا شيء يقع في عالم الأرض والانسان الا وهو مُثبت في اللوح المحفوظ.
لكيلا تأسوا : لكيلا تحزنوا.
مختال : يتخيّل نفسه عظيماً. أي متكبراً.
أنزل معهم الكتاب : أنزل على النبيين الكتب. كالتوراة والانجيل والقرآن.
وأرسلنا رسلنا بالبيِّنات : أي بالدلائل الواضحة والمعجزات المثبتة.
رهبانية ابتدعوها : هم أحدثوها، وأدخلوها في الدين وهي ليست منه.
قَفّينا على آثارهم برسلنا: أي استمر تتابع ارسال الرسل من قبل الله تعالى الى أقوام آخرين.
كفلين : الكفل، هو الحظ والنصيب . ومعنى قوله تعالى: يؤتكم كفلين: أي يؤتكم نصيبين أي عطاء ضعفاً.
المعنى العام الآيات (22 ـ 29)
(ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب ... لكيلا تأسوا على ما فاتكم... ).
وبهذه الآية يكمل القرآن أسس الإيمان والتعريف بصفاته، ويثبِّت معالمه، فقد ثبّت أصل التوحيد وصفات الله سبحانه حين أوضح أن خالق السماوات والأرض هو الله المنزّه عن مشـابهة الخلق، المتصف بالكمال المطلق، المدبِّر للخـلائق جميعها ، الّذي إليه تُرجع الاُمور.
إنّ الوحي يأتي في هذه الآية فيوضِّح ان لا شيء يجري في عالم الأرض والإنسان، كما هو الحال في بقية العوالم، إلاّ بعلم الله وبإذنه وقضائه وقدره، فهي بالنسبة لخالق الوجود لم تكن أمراً حادثاً، ولا مسألة مستجدة في علمه وتقديره، بل علمه بها قديم، فهو كما وصف نفسه : الأوّل، والآخر، والظاهر، والباطن .
إنّ الإيمان بالقضاء والقدر هو أساس علاقة الإنسان النفسية السليمة بالله تعالى، وهو مصدر إنقاذ الإنسان من الخوف والقلق والإضطراب النفسي الّذي يقود الإنسان إلى مشاكل ومآس كثيرة وفقدان الراحة النفسية في الحياة .
لذا يوضِّح القرآن ان الوجود بأسره عالم منظَّم ومُسيّر، وذلك لا يعني إلغاء العقل والإرادة البشريتين، بل يعني أن هناك قوانين وأنظمة يسير وفقها الوجود الإنساني ومصالح الإنسان، وهي التي تصنع النتائج في هذا الوجود، الخيّرة منها والشرِّيرة قد أحاط بها علم الله، وهي معلومة لديه منذ الازل، وذلك يعني أن هذا العالم بأحداثه الإجتماعية والطبيعية لا يسير سيراً فوضوياً عشوائياً، تتلاعب به الفوضى والعبثية، إنما يسير وفق حكمة ونظام، وان ما يجري فيه من شر يصيب الإنسان، ان هو إلاّ بما كسبت يداه : (ظهرَ الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي النّاس ).
وإنّ ما توضِّحه الآية هو أن لا حدث يقع في عالم الأرض، أو على الإنسان ذاته، إلاّ وهو مثبت في كتاب الله، وعلمه به قديم كقدم ذاته المقدّسة .
فالحوادث الّتي تقع على الإنسان من الموت والمرض والغنى والفقر والآلام والمسرّات وغيرها، بعضها يصدر عن الله تعالى من غير أن يكون للإنسان دخل فيه، فالله هو الّذي قدّره، ولا يجري ذلك إلا لحكمة ومصلحة، ووفق معايير العدل واللطف الإلـهي، وان كرهه الإنسان ولم يدرك خيره ومصلحته .
قال تعالى موضّحاً هذه الحقيقة: (... وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئاً وهو شرّ لكم ).
ولعدل الله سبحانه فان ما يقع على الإنسان من آلام تقتضيها الحكمة الإلـهية ففيه العوض يوم الجزاء، وقسم مما يحدث للإنسان، ويقع عليه من الله سبحانه بصورة فردية أو جماعية إن هو إلاّ عقوبة إلهية، نتيجة لفعل الإنسان وسوء تصرفه في عالم الطبيعة والمجتمع.
وقسم آخر من الأفعال هو الأفعال الخيِّرة الّتي يختارها الإنسان بمحض إرادته واختياره، وتوفيق الله ولطفه الّذي استحقه بإيمانه وإخلاصه، يقابله الله سبحانه بالجزاء الخيِّر في عالم الآخرة، كما يحدث الآثار الإجتماعية والحياتية لصالح الإنسان.
وكلّ ذلك قد علمه الله سبحانه، فقد علم حقيقة الإنسان الفرد والجماعة، وبما تحوي النفوس، وما ستفعل نتيجة لتلك الحقيقة النفسية، كما أنه قدَّر الموت والحياة، وما يريد هو سبحانه أن يفعله بالأفراد والاُمم مبادأة منه، أو استحقاقاً لما فعلوا، فثبّته في كتاب ، أي صار حقيقة حتمية الوقوع.
والقرآن في خطابه هذا للإنسان يؤكد له أن ما يقع عليه من الله سبحانه مبادأة من الموت والمرض، والحوادث الاُخرى من الربح والخسارة، ما هو إلاّ أمر مضى تقديره لحكمة إلهية، فلا تجزعوا ولا تحزنوا على ما فاتكم من شيء تقدّرون وجوب وقوعه، ولم يقع، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وكما ينهى الإنسان عن الحزن والتألم لما يفوته، فانّه ينهاه